زيارة أوباما وإعادة تأهيل مصر للعودة إلى محور الاعتدال العربي!

الكتابة عن زيارة أوباما خاصة فور إلقائه خطابه في جامعة القاهرة فيها مجازفة، لأن ذ لك يحتاج للتدقيق والتأمل قبل إصدار الحكم النهائي عليه. ومع ذلك فاللغة التي بدت مختلفة عما قال وصرح به رؤساء أمريكيون سابقون نأمل ألا تجعل آراءنا وأحكامنا متناقضة.. ومهما كان الكلام بليغا ورقيقا فإن لغة الواقع في صمتها وصرامتها كثيرا ما تكون أصدق وأبلغ من الخطب الرنانة.
نقول هذا وقد تعودنا من رؤساء سابقين أنهم حين يعدون لعدوان أو مصيبة أو يغطون على جريمة كبرى يسوّقون للعرب والمسلمين كلاما يدغدغون به مشاعرهم، وأصبح كثير منهم يتشاءم من الكلام الأمريكي المعسول، خاصة في ما يتعلق بالقضية الفلسطينية. فهو يسبق المصائب التي تحل بالفلسطينيين أولا، ثم العرب ومن لف لفهم ثانيا.. قيل مثل هذا الكلام بعد حرب 1973 وقبل كامب ديفيد وما تلاه. وكانت تتبعه ضربات أشد إيلاما من سابقاتها قامت بها الآلة العسكرية الأمريكية بالأصالة أو الآلة العسكرية الصهيونية بالإنابة .. لا الرؤساء الأمريكيون توقفوا عن الكلام ولا تعب المسؤولون العرب، بما فيهم السلطة الفلسطينية من كثرة التنازل.
وقد يكون أوباما جادا فيما يقول حين أشار إلى التزامه بحق الدولة الصهيونية في الوجود واقتران قوله بحق الدولة الفلسطينية هي الأخرى في الوجود. أقول هذا مع شكي الكامل في هذه الجدية المدعاة. وكانت عقدة الخطاب في إشكاليات ثلاث. الأولى لها علاقة بمكان الخطاب وحصوله على المباركة السعودية له. فبدا وكأنه موجه إلى أتباع مذاهب وطوائف وطرق بعينها وإسقاط الآخرين من الحساب. والإشكالية الثانية هي مدى جدية أي رئيس أمريكي تجاه جريمة إنسانية بحجم الجريمة الفلسطينية.. فالجدية تقتضي التكفير عن جريمة استئصال شعب وشطبه من الوجود، وتمكين غيره من إقامة دولة على أنقاضه تعتمد نظام الفصل العنصري وإقامة جدار عازل بين أصحاب الأرض الأصليين والمستوطنين الجدد. تجاوز ما كان في روديسيا (زيمبابوي الآن) وجنوب افريقيا، والإشكالية الأخرى هي المعنى الذي يقصده الخطاب بالدولة الفلسطينية بعد أن عودنا الغرب.. بزعامة بريطانيا العظمي من قبل ثم أمريكا من بعد، على أن الدول غير البيضاء، التي تقام بجهد ومساعي الغرب تهدف إلى صناعة التوتر، وتأجيج الصراعات، وبث الفرقة، ونشر ثقافة التقسيم والفتنة، وتفجير الحروب الأهلية، وإحلال جماعات محل أخرى أبيدت واقتلعت من أوطانها وأراضيها .. الغرب لم يحرر أحدا من آسيا وافريقيا وأمريكا اللاتينية، ولم يُقِم دولا مستقلة . والدولة الصهيونية تجسيد لنموذج الدولة الاستيطاني الذي أنشأ أمريكا والدول التي على شاكلتها . والتكفير عن جريمة بهذا الحجم ليس في مقدور أي رئيس أمريكي. فمن منهم يستطيع أن يعيد للفلسطينيين أرضهم مرة أخرى ليقيموا دولتهم عليها ؟ الدولة الفلسطينية في منطق الغرب ومن منظور المشروع الصهيوني لن تكون أكثر من مخفر شرطة له مهمة واحدة هي حماية الد ولة الصهيونية والدفاع عنها. وجاء تعليق كبير مراسلي تليفزيون هيئة البث البريطانية ( بي بي سي ) جيريمي بوين على خطاب أوباما في محله.. فقد وصفه بأنه رفع سقف التوقعات، وطرح سؤالا عن قدرة أوباما على ترجمة القول إلى فعل .
لن نسترسل كثيرا. فما يعنينا هو ما خفي من جبل الثلج العائم، و أهمه ما ظهر عن الحالة الصحية والنفسية لحسني مبارك.. بدت متردية للغاية .. ولا يُعرف إذا كان ذلك بفعل وفاة حفيده ، أم لأسباب أخرى ضاعفت منها وفاة الحفيد، ويبدو ان الأسباب الصحية حالت بين مبارك الأب وبين الذهاب لاستقبال ضيفه في المطار كالمعتاد، بعد حفاوة بالغة استقبل بها من قبل الملك عبد الله ملك السعودية . وأوباما الشاب صحيح البدن والنفس مثله مثل حسني مبارك على رأس نظام معتل. وإن كان مبارك الأب ينشد العلاج عند الأطباء فأوباما يتصور أن وصفة علاجه متاحة عند العرب والمسلمين.. هناك أزمة اقتصادية خانقة شديدة الوطأة تواجهها الولايات المتحدة ويواجهها العالم كله معها، وتحتاج إلى حل . وهناك مشكلة السلاح النووي الإيراني وطريقة مواجهته، والقلق من تهديده للدولة الصهيونية والمصالح الغربية والأمريكية . ليس هذا فقط فما زال خطر المقاومة مستفحلا، وهي تتسع في المنطقة العربية والعالم الإسلامي وغيره. لم تفلح معها 'الحرب ضد الإرهاب'، ومن مهام أوباما استمرار الحرب ضدها. والمقاومة المستهدفة ليست التي تحمل السلاح فقط إنما تشمل حملة الأقلام والأفكار والثقافات المحفزة والحاثة على الاستقلال والتحرر وما لديها من أدوات ثقافية وإعلامية. ويعي أوباما كغيره من رؤساء أمريكا المعاصرين أن الحل لن ينجز بدون أموال العرب وجهود المسلمين.
من هنا لاحت فكرة التوجه إلى مصر لمخاطبتهم مباشرة، وبعد أن حزم أمره تنبه إلى حالة محور الاعتدال العربي المتردية، بعد آخر تجليات التوحش التي جسدتها ' محرقة غزة ' ، وما تبعها من تداعيات غيرت في علاقات القوى الداخلية والإقليمية والدولية ، كان أهمها ما لحق بالدور المصري من تراجع وانحسار. فبجانب أن هذه المحرقة قضت على أي إمكانية لاستئناف هذا الدور، أو أي أمل في تعديل سياسته مما أبعد مصر الرسمية تماما عن كل ما له علاقة بالقضايا الوطنية والقومية والإنسانية ، فضلت العمل لحساب تل أبيب دون سواها. وبدت مصلحة تل أبيب تمثل المصلحة العليا لحكام مصر، وكان هذا واضحا في ما جرى لغزة وأهلها .. لقد كان في حقيقته تصفية لغزة. بنيانها التحتي ومرافقها ومدارسها ومستشفياتها ومحطات الطاقة، ومعها سكانها بآلاف الضحايا من الأطفال والنساء والمدنيين، الذين لا علاقة لهم بالعنف أو العمل المسلح، بالإضافة إلى إغلاق معبر رفح وهدم وتفجير الأنفاق التي مثلت شريان الحياة لسكان القطاع، وإحكام الحصار حولهم، في إصرار غير مسبوق من جانب أهل الحكم على منع كل نشاط من أجل العون، والوقوف ضد أي عمل يخفف من المعاناة ووطأتها .

وأثناء المحرقة بادرت قطر بالدعوة إلى قمة عربية عاجلة عرفت باسم قمة غزة، رفضها حسني مبارك. ولم تكتف وزارة الخارجية المصرية بذلك فتولى وزيرها أحمد أبو الغيط تحريض الحكومات العربية على المقاطعة. وخرج على الناس متباهيا بقدرته على إفشال قمة الدوحة. وتبنى الإعلام الرسمي الخطاب الصهيوني بحرفيته في تبرير المحرقة.. مقللا من شأن العمل العربي الجماعي. مدعيا أن عملا من هذا النوع يأتي على حساب مصر! وبذلت الإدارة المصرية ما في وسعها لإنجاح أي عمل صهيوني وغربي وأمريكي، وتمكنت من وأد العمل العربي الجماعي . حار المراقبون والمحللون في تفسير هذه الظاهرة . وقال بعضهم إذا كان مبارك الأب غاضبا من قطر، وإذا كان أهل حكمه وإعلامه قد أصيبوا بلوثة ( فوبيا ) ' الجزيرة'، واتخذوا من ذلك ذريعة للغضب وعدم الحضور والدعوة للمقاطعة، فإن مؤتمر الكويت الاقتصادي، الذي عقد بعد مؤتمر الدوحة بأيام، عقد في بلد غير قطر، وليس به فضائية كـ'الجزيرة'.. بلد أصدقاء وأحبة من محور الاعتدال . فما معنى الاعتذار عن حضوره وعدم المشاركة فيه إذن؟
كان تفسيرنا لهذه الظاهرة ينطلق من أن المحرقة فرضت نفسها على مؤتمر الكويت، وكان من غير الممكن تجاهلها، ووضعها على جدول الأعمال كان يشير إلى إمكانية اتخاذ قرارات عملية بشأنها، في أجواء هبت فيها رياح مصالحة، وإن بدت خجولة. وكانت المشكلة في ما قد يترتب على ذلك من مد جسور مع دول وجماعات عربية وإسلامية محسوبة على المقاومة وتتبنى نهجها أو داعمة ومؤيدة لها . ومن المعروف أن محور ' الاعتدال ' لا يمانع في الاعتراف بالدولة الصهيونية والتطبيع معها . وكانت هناك أطراف مستعدة لتحمل نصيبها من استحقاقات المصالحة السياسية والاقتصادية والإعلامية والإنسانية. وكان ذلك فوق طاقة أصحاب القرار في القاهرة وشرم الشيخ . بعد أن حسموا رأيهم وحزموا أمرهم بأنهم مع الدولة الصهيونية قلبا وقالبا. وأي عمل عربي من أي نوع يفسر على أنه موجه ضدهم حتى لو كان من قام به من محور الاعتدال. وإذا كانت قطر وموريتانيا قد أغلقتا مكاتب التمثيل التجاري الصهيوني فقد يُطلب من المسؤولين المصريين إغلاق سفارة تل أبيب في القاهرة وفتح معبر رفح وتخفيف معاناة الفلسطينيين وفك الحصار عنهم والسماح بقوافل المساعدات الإنسانية بالوصول إليهم . كان هذا هو السبب الحقيقي لعدم حضور مبارك الأب واعتذاره عن المشاركة في مؤتمر الكويت الاقتصادي.
كان ذلك إعلانا صريحا بالانسحاب من محور الاعتدال والاكتفاء بالعمل والتعاون مع حكومة العدو المتطرفة، وانتهى ذلك بلقاء حسني مبارك وبنيامين نتنياهو في شرم الشيخ فور تمكن الأخير من تشكيل وزارته الجديدة. ومقابل حصول نتنياهو على شهادة رسمية مصرية منحته صفة ليست فيه، وهي 'رجل السلام '.. رد الجميل من جانبه بسحب اعتراض حكومته على ترشيح فاروق حسني وزير الثقافة لرئاسة اليونسكو، وبعد أن كان حسني مرشح القاهرة أصبح مرشح تل أبيب.
خروج حسني مبارك من محور الاعتدال أ ضعفه وأضعف محور الاعتدال. ومن أجل ان ينجح أوباما في مهمته كان على إدارته أن تعمل على توزيع الأدوار في المنطقة من جديد وإعادة تأهيل النظام المصري للعودة إلى محور الاعتدال، وفي الساعات الأخيرة جرت محاولة دعوة أقطاب المحور لزيارة القاهرة.. فشلت جهود عمر سليمان في الرياض، وأخفقت مساعي أبو الغيط في عمّان. لم يقتنع أي من الملكين السعودي والأردني بالفكرة، وكانت واحدة بواحدة.. استقرت فكرة مرور أوباما على الرياض، المعقود عليها الدور في قيادة محور الاعتدال ، وتعبيد الطريق أمام عودة مصر الرسمية إليه . وهذه هي الصفحة الجديدة التي عناها أوباما في خطابه.. صفحة زار فيها البلد الذي نزل فيه الإسلام، وتحدث إلى العالم من الدولة العربية الأكبر، التي تحتضن أهم مؤسسة دينية إسلامية في العالم.. وهي الأزهر !