قراصنة.. ولكن!

منذ وقت طويل لم نسمع بالقراصنة. نراهم فقط على شاشات السينما ونقرأ عنهم في الكتب. في الواقع لم يعد هناك قراصنة يعتد بهم. فمنذ أن انهى البريطانيون الاعمال العسكرية التي كانت تعيق تدفقهم الى قارة النهب لم تعرف شرايين الملاحة في الخليج العربي، بحر العرب، المحيط الهندي نشاطا يذكر لـ 'القراصنة'. لم يكن اولئك 'القراصنة' قراصنة بالفعل. على الاقل هذا ما يجادل به الباحثون العرب وبعض الباحثين الغربيين المنصفين. اتحدث هنا عن صراع 'القواسم' مع سلطة التاج البريطاني التي ارادت بسط نفوذها المطلق على الخليج العربي لتأمين تجارتها الهندية في الاتجاهين. 'القواسم' لم ينظروا الى أعمالهم في مواجهة تنامي الوجود البريطاني في مجالهم الحيوي على أنها قرصنة. كانت في نظرهم، ونظر الأعراف البحرية السائدة آنذاك، عملا يذود عن المصلحة الوطنية، عملا يجري امام سواحلهم ومياههم الاقليمية. لم يذهب 'القواسم' الى 'ساوثهمبتون' ولا الى 'ليفربول'. كانوا يتحركون امام الشارقة ورأس الخيمة ورأس مسندم، في مياه تعتبر مجالهم الحيوي، مصدر رزقهم، مياههم الاقليمية. تبنى التاريخ مصطلح 'القرصنة' الذي أطلق على نشاط 'القواسم'. لهجت به كتب البحث وصفحات المجلات والصحف، تسلل الى الكتابة العربية التي اعتمدته من دون مساءلة جادة عمن هم القراصنة الفعليون: القادمون من بحار مظلمة بعيدة ام أهل المنطقة. تلك كانت آخر أيام 'القرصنة'، تقريبا، في المياه العربية والهندية.
الرواية والسينما تولتا اعادة انتاج القراصنة. تحولوا الى مادة ترفيهية تحقق ملايين الدولارات. آخر أعمال قراصنة الشاشة هو ثلاثية 'قراصنة الكاريبي' شبه الاسطوريين. يحصل أحيانا أن تعيد السينما انتاج الواقع. يحصل، أيضا، العكس: الواقع يقلد السينما ويعيد انتاجها. لا ندري إن كان قراصنة الصومال هم اعادة انتاج واقعية لخيال السينما أم ثمرة تطور واقعي كان لا بد أن يحصل في بلد تمزق إربا. لكن عندما تضيق فسحة العيش بالناس يقومون بما يتنافى، أحيانا، مع شيمهم وخصالهم. لا أظن أن القرصنة طبع متأصل في الصومالي. او من شيمه وخصاله. لم يعرف عن الصوماليين، في السابق، ميل كهذا. بل لم نكن نسمع الكثير عن الصومال عندما كان دولة واحدة. أراد الغرب في صراعه مع 'الكتلة الشرقية' ايجاد موطىء قدم في القرن الافريقي فعمل على تفتيت الصومال. بدأ الأمر مع محمد سياد بري الذي انتزعوه من حضن موسكو مثلما انتزعوا محمد أنور السادات وجعفر نميري. ثلاثة تحولات اقليمية صنعت تاريخا جديدا للمنطقة. مصر التي حافظت على وحدتها الترابية خضعت تماما لارادة واشنطن. خرجت من 'الجبهة العربية'. قيدت باتفاقيات ومنحات مالية كبيرة. صارت وسيطاً لاسرائيل والغرب في نزاعات المنطقة. هذا هو دورها الذي تكافأ عليه بمئتي مليار دولار سنوياً. أما السودان والصومال فسارا على خطى التفتيت. قد يكون السودان أكثر حظا، حتى الآن، من الصومال فلم يتفتت تماما رغم عصف قضايا 'الاقليات' في خارطته المليونية. لكن الصومال تفتت. انتهى كدولة موحدة ذات نظام 'تقدمي' ذي قبضة حديدية. كان البديل أسوأ. عادت اليه القبليات. صار لكل قبيلة دولة. ولكل قبيلة جيش ومرفأ. ماذا يتوقع العالم من بلد لا يرغب أحد بإيجاد حل فعلي لتمزقاته؟ لا العرب بذلوا جهدا لرأب صدوعه ولا الغرب اهتم بإعادة توحيده واجراء مصالحة حقيقية بين مكوناته القبلية. المحاولة الوحيدة التي جرت على هذا الصعيد قامت بها 'المحاكم الاسلامية' التي رُبطت فورا بـ'القاعدة' فأرسلوا لها الجيش الاثيوبي فأنهى 'نظامها' الذي كاد أن يوحد الصومال مرة أخرى. الآن يتحدثون عن القرصنة. الآن عاد الصومال الى اهتمامات 'الرأي العام' العالمي بعد أن بدأت أخبار اختطاف البواخر تتصدر الاخبار. ربما كان بعض تلك الأعمال قرصنة. ولكن لِمَ ظلت مياه الصومال الاقليمية مسرحاً لقراصنة آخرين قادمين من البعيد لنهب ثرواته البحرية؟ ماذا كان يفعل اليابانيون والاسبان والفرنسيون امام الشواطئ الصومالية؟ الآن، ينتبه العالم للصومال. ليس لأزمته، ليس لحكومته الجديدة، ولا لآمال نخبه في الوحدة وشعبه في الاستقرار.. وانما بسبب قراصنته.
ولكن ما هي الحلول المقترحة لإنهاء ظاهرة القرصنة التي تهدد 'الملاحة' العالمية؟ توحيد الجهود في مواجهة القراصنة! ولكن هذا ليس حلا. القرصنة عرض. المرض في مكان آخر. فهل هناك من يهتم فعلا؟ أشك بذلك.

اغلا نسمه نورتيني قلبي

ميرسي جانيستا علي المجهود

دودو نورتيني حبيبتي