عاصمة الأرض!

من طرف **janesta** الأحد أبريل 05, 2009 6:58 am

في البدء كانت توأم الكلمة، وهي الاجتراح الرسولي لأفق بكر، شهدت من الدم عبر فصول التراجيديا التي تشكّل منها تاريخها ما لم تشهده عاصمة أخرى في الأرض، وهي التي علت، ثم نأت، وظنّ المستوطن الغاشم انها دنت وتدلّت فوق رأسه، فشحذ الناب والمنشار، لكنها أوغلت في الخضرة والعلياء حتى أضاءت من حريق أصابعها كوكبا، ولم تفلح كل هذه الكهرباء في اضاءة متر مربع واحد، هو المهد والخندق، وهو الشفق والغسق، ما مر يوم عليها لم تكن فيه عاصمة الروح، فهي الملاذ لا اللائذ، والبلوغ لا البالغ، كما ان سقوفها المطرّزة بتجاعيد التاريخ لا تكف عن رواية تاريخها، لكن بلغة أرى غير هذه التي يرطن بها أهلها . القداسة تنسب اليها، وهي لا تنسب الا لجذرها الضارب في السماء، مرت بها أحصنة وعربات وتكسّر الصهيل على أبوابها، مثلما تكسّرت عربات الغزاة الذين عادوا مأخوذين بسحرها... انها الاصابة الأبلغ للروح، فهي الجغرافيا الموشومة بتاريخ بدأ قبل ان يبدأ، ولكنه يقترب من تخوم قيامة وشيكة، هي لا غيرها العلامة، وقد يصبح فيها الحجر بدلا من الديك الأخرس، لأن الزمان ليس زمانها، وان كان المكان هو جلدها لفرط ما مكثت فيه ولأن الماضي لا يسقط الا اذا ظنّ المصابون بالدوار انه سقط.
ليست بحاجة الى اعلانها عاصمة للغرب، ولكل الناس ولكل الألسنة، فهي كذلك رغم صمتها الذي ترشح منه هذه الرائحة الزرقاء الشفيفة، وحين ظنّ الاسخريوطي الوريث انه أسْرلها او هوّدها او وحّدها تحت صولجانه المكسور منذ الفي عام، سخرت كل أشجار زيتونها من النبأ، وبقي الحفيف عربيا فصيحا، تجهر به كل ورقة حتى لو سقطت في الخريف .
هي النشيد الذي لا ينتظر أحدا يغنّيه، ما دامت حجارتها الحكيمة تعظ العابرين بأن يتمهّلوا قليلا كي يقرأوا تلك الأيقونة المحفورة في الصخر وجذوع التين والزيتون . وكم تبدو القدس ساخرة الان من هذا السّجال العقيم حول هويّتها، فهي بلغت حدا من التطابق بينها وبين تاريخها وتضاريسها بحيث لا تحتاج الى ان تسأل احدا عن أبيها، أضاعها جيلان او ثلاثة من عرب نهايات الزمان وكانت قاب حربين أو ادنى من العودة الظافرة لكن علاقمة التاريخ يتناسلون، وكذلك الايوبيون يتناسلون والحوار سيبقى على أشده بين ضفدع ينقل الماء على قدر استطاعته وحرباء تفحّ كي توقد المزيد من النار ...
كانت لأزمنة الوعد والوعيد معا، وهي التي اقترنت اسما ورمزا بقيامة الناس وقيمومة الكتب، وما كتب عنها وحولها أضعاف ما كتب منها أو فيها، لأن من سولوا لأنفسهم ان ينوبوا عنها نسوا للحظة ان اجادة الصمت أبلغ من اجادة الكلام الثرثار، لهذا حجبها من ظنّ انه ينير اسمها وشوارعها .
لقد احترق ذات حب أهلية بين اعراب الزمن الاخير الأورغ الذي عزف الرحابنة لحن حنينهم عليه، وكما قال أحدهم : كان فألا سيئا، ان ينتهي الاورغ الى ما انتهى اليه كعب البندقية، فالنار لا تفرق بين كتاب لأرسطو وكتاب عن فن الطبخ، تماما كما ان الماء لا يفرق بين مخطوطات العباسيين والنوارس الميتة .

ان اعتبار القدس عاصمة للثقافة العربية وحدها عام 2009 يغفل ما قبله من اعوام وما سوف يعقبه من قرون وربما ألفيات حتى القيامة، فهي عاصمة الانسان حيثما كان، وعاصمة الحزن النبيل بمعزل عن اللغات والأوتار، لأنها مفتاح السرّ للحرب والسلام على السواء، وما ان تصمت اجراس كنائسها حتى تمتلىء أزقتها النحيلة الاشبه بالشرايين بالأشباح، لأن من أطفأ القنديل بفحيحه ومن صَلَب يسوع... هو الان يحشد زفيره ليطفىء الشمس ان استطاع ويصلب شعبا كاملا على لوح خشبي بسعة العالم !
ما أعنيه ليس تماما ما قد يحضر الى الذاكرة من كازانتزاكي، فالمسيح يصلب من جديد، لكن بصورة اخرى، وعلى نحو بالغ الترميز، ولا اظن ان هناك حيا لا يزال ضميره لا يتحسس المسامير وهي تثقب راحتيّ يديه عندما يشاهد اطفال القدس يذبحون، وبيوتها تهدم، وترابها يدنس ويستباح . ان المدينة التي تقطر من رحيقها كل هذا النسيم القدسي لا تعبأ بمن يندس تحت ابطها كي يطعنها في القلب وهو يدّعي بأنها جدته، فقد سبق هذا المستوطن عابرون كثيرون، لم يمهروا أرضها الا بما نزف من دمائهم وهم يرحلون، لقد سمعت اللغات كلها، وتكسرت على خاصرتيها النّصال على النّصال، لهذا تلقّحت بأمصال باسلة ضد الوباء، سواء كان احتلالا او استيطانا او دخولا بغير استئذان من النوافذ المشرعة على الرّيح!

من طرف **janesta** الأحد أبريل 05, 2009 6:59 am

ان احتفال العرب بيومها الثقافي يبدو أشبه بحفلة زفاف فلسطينية على حاجز اسرائيلي، فالطرق كلها لم تعد تقود اليها، وهي الأجدر من سمرقند بهذا الوصول، وقد تكون نيويورك او لندن او حتى استراليا أقرب اليها من شقيقاتها الاسيرات، ورأس رجائها الطالح لا الصالح يقترحه الان جنرال اعمى، صدّق حلمه ذات ليلة بيضاء فقرر ان يستفرد بها، ويحتكرها، ويزوّر شهادة ميلادها وحتى اسمها !
وكانت القابلة غير القانونية قد تحالفت معه، فكذّبت، وزوّرت شهادتها، لكن الوليد نطق وهو ينزلق من الرحم، بلغة مضمّخة بصهيل الخيل ....

عندما شهد شاهد من أهله ... غضب الحاخام وتبعه الجنرال وركض خلفهما المستوطن.. فقد قال اسرائيل شامير ان القدس التي يهذي الحاخامات حول تهويدها وتأبيدها هي قدس اخرى متخيّلة وليست من هذا العالم... واستشهد بالقصة الشهيرة لدون كيشوت وتابعه سانشو، فكل ما قيل عن انتصارات الحاخام والجنرال لم يكن سوى افراز مخيّلة محتقنة ومشحونة بالتفكير الرغائبي والاسقاطات السياسية والايديولوجية، وانتهى الى القول ان القدس تزوجت وأنجبت وها هي تعيش في بيتها، لكن كذبة سانشو استمرت، ولا يزال دون كيشوت يتصور انها العذراء التي تنتظر وصوله على الجواد الأبيض !
انها بيلارس التاريخ لا الاسطورة، وهي بخلاف تلك المدينة الساحرة التي تخيّلها برتولد بريخت رغم واقعيته الشديدة بيلارس الاسطورة تشفي الأبرص وتحقق الوصال للمحرومين، ويبلغ كل كائن غايته اذا لامست قدماه عتباتها... لكنها اصيبت بالزلزال، فخيّبت احلام من كانت ندّاهتهم في الليل والنهار، والقدس ليست كذلك، انها التاريخ في أقصى وحشيته وشعريته معا، فهي ساحة الجدل الأبدي بين المهد والتابوت وبين المهاجر والفاتح، اما الزلزال الذي اصابها فهو تاريخي بامتياز، لم يهدم بيوتها وسورها ومآذنها وكنائسها، بل دم شيء آخر غير مرئي بالعين المجرّدة، لكنه مسموع عن بعد كالانين، ان القدس مشرعة على جهة خامسة قد تكون الابدية او العالم السفلي، وقد تكون الجهة السماوية التي لا تؤشرها بوصلة، ان بعض الامكنة المشربة بروح الزمان تتحول الى أزمة لا يكون المكان سوى بوابتها، فالتزاوج فيزيائي وليس شعريا فقط بين السماء والارض وبين التاريخ بمعناه الحدثي والاسطورة في بُعدها الخلاّق، ان مدينة تقطر التاريخ ورشح من أزقتها وسورها وكل طلل فيها لا يمكن لأحد ان يحتكرها، خصوصا اذا كان قرصانا يرتدي قناع قديس، ويحتال على البشرية بالاستدراج عبر بكاء هو وثنيّ في جوهره رغم كل المزاعم العقائدية .

القدس التي كانت الجاذب الأكبر لتعريب فلسطين وأسلمتها، وأنْسَنَتها يراد لها الان ان تنحسر داخل سورها، وان تقف بمفردها وما تبقى فيها من هوية أمام الجرافة والدبابة والممحاة التي تتدلى من قلم المؤرخ الموظف لهذا لا بأس أن يكون عام 1909 مجرد مناسبة لفتح الباب على مصراعيه، واستقراء القدس مدينة ورمزا وكثافة تاريخية، ما دام هناك من قرروا في غفلة من الزمان تهويدها، وافراغها من مضمونها القومي والديني، انها اوسع مما يظن راسمو الخرائط، لكنها اضيق من ظل رمح اذا سال عليها اللعاب السام، والتعامل معها ثقافيا وحضاريا يجب ان يكون محررا من كل ما له علاقة بالامر الواقع، لأن هذه الحقبة هي مجرد حملة معترضة في كتابها، او هي عطلة تاريخ لم يظهر من حراكه غير الزّبد!
ان عاصمة الأرض هي بالضرورة عاصمة العواصم كلّها وحفل اعلانها قلعة للثقافة والحضارة والأديان يليق به ما ليس متاحا الان لمن ينتسبون اليها ومن استطالت ابصارهم وقصرت أيديهم حتى اوشكت على الاضمحلال، وكل محاولة تتصدى بها الدولة العبرية للحيلولة دون اشراك العالم في عام القدس وزمن القدس وتاريخ القدس هي تحالف معلن مع الارهاب الرسمي والعنف الذي يحظى بالشرعية والإسناد الكوني، وما فعله العرب والمسلمون والمسيحيون حتى الان يقل كثيرا عن استحقاقات عاصمة الأرض، فهي الأجدر باختبار ما تبقى من منسوب المناعة والأخلاق، لأن انتهاكها بشرا وشجرا وحجرا هو بمثابة انتهاك للبشرية جمعاء، واللحظة الان مؤاتية لكل مثقفي العالم وناشطيه كي يترجموا التأنق النظري وبلاغة المواقف المجردة الى وقائع، فاليوم قدس وغدا الكون !