اوباما يتفوق على نفسه كوميديا ويهرب من البيت الأبيض الى مطعم هامبرغر

متى ترحل آلهة البطش عن بلادنا
في الأسبوع الماضي تشاغل الاعلام الامريكي ومن ورائه الاعلام العالمي المثبت دائما على بوصلة ما يحدث في بلاد العم سام، بقصتين رئاسيتين طريفتين من نوعية تلك الموضوعات التي يتلهف عليها رؤساء تحرير النشرات الإخبارية ومديرو غرف الأخبار حول العالم لأنها تنثر بعض البهارات او فاتحات الشهية - يتوقف الأمر على المذاق الشخصي لكل منا إذا كان من هواة الأطعمة الحريفة، ام من مدمني الحلويات والشيكولاتات -التي تخفف من وقع اخبار الكوارث الطبيعية منها والمصنعة بشريا والتي عادة ما تحتل الصدارة وتكتظ بها النشرات شرقا وغربا. ولأن الأمر يتعلق برئيس الولايات المتحدة اولا، وبباراك أوباما على وجه التحديد الذي لا يزال يتمتع بشعبية كاسحة في بلاده وحول العالم (آخر استطلاع للرأي أجراه معهد امريكي في ست دول عربية - مصر والسعودية والامارات والكويت ولبنان والبحرين - وجد ان شعبية اوباما في العالم العربي تفوق شعبيته في الولايات المتحدة نفسها بأميال)، ابرز الاعلام الامريكي الموضوعين الطريفين وظل يعاود تدويرهما صباح مساء، ولا يزال يفعل حتى اللحظة بالنسبة للحدث الثانوي، وهو العشاء الرسمي السنوي لاتحاد مراسلي البيت الأبيض من كل صحافات وشبكات العالم الاخبارية.
في مطلع الأسبوع الماضي شاهدنا مع الملايين من الامريكيين كيف أن الرئيس اوباما استبد به الجوع هو ونائبه جوزيف بايدن، وأحسا بنزوة طعامية لا تقاوم لسندوتشات الهامبورغر بالذات، أشهر الأطعمة الامريكية قاطبة وان لم يكن لا اشهاها ولا اكثرها صحية. وكما يقول مثل امريكي شائع when a man wants to have his burger a man must have his burger شيء اشبه بما نقوله عندنا حينما يحس المرء برغبة في اكلة بعينها ' طلبت سندوتشات فول او طعمية مثلا'، قرر الرئيس ونائبه على سبيل الهرب من اجواء البيت الأبيض الرسمية والمكتظة بالقضايا المستعصية من الاقتصاد والحرب في افغانستان وجارتها باكستان التي توشك على الانهيار، الى الشرق الأوسط الغارق في حالة من الركود والبلادة والسياسة، قررا ان يذهبا الى مطعم هامبورغر قريب من العاصمة في حي 'ارلنغتون' الواقع في ولاية فيرجينيا، ضمن منطقة واشنطن الكبرى او 'المتروبوليتان' كما تعرف. شاهدنا الموكب الرئاسي الذي يضم عشرات السيارات السوداء الفارهات بنوافذها المصمتة، يخترق شوارع العاصمة عابرا الى فيرجينيا ليتوقف امام محل صغير جدا داخل مجمع تسوق متواضع جدا.
شاهدنا باراك اوباما يدخل بصحبة نائبه الى المطعم ويقفان في طابور الزبائن ينتظران دورهما مثل 'بقية خلق الله'، والرئيس يتجاذب اطراف الحديث مع 'عامة الشعب' او رفاقه المواطنين الامريكيين (كما يخاطب كل رؤساء امريكا شعبهم (My Fellow Americans، ثم يطلبان ساندوتش هامبورغر بالجبن والكتشب ومشروباً، وكيف رفض اوباما بأسلوبه الطريف المعتاد دعوة صاحب المحل بعدم الدفع وأصر قائلا له 'هل ترى كل هؤلاء المصورين والصحافيين، سوف يكتبون في الصحف في اليوم التالي ان الرئيس ونائبه أكلا مجانا على حساب صاحب المحل'. واخرج اوباما النقود من محفظته التي يحتفظ بها في جيب سرواله الخلفي مثل بقية البشر، ودفع ثمن الطلبات ليس لنفسه فقط بل ولاعضاء طاقم الحراسة المرافق له، بعد ان طلب ان يحملوا طعامهم لتناوله خارجا في السيارة ربما، لأن المطعم لا يتسع لهم، وجلس هو وبايدن على طاولة صغيرة في المطعم. زيارة الرئيس كانت فاتحة خير -. وليست لعنة كما هو الحال عندنا - على صاحب المطعم الصغير الذي علق لافتة صغيرة يعلن فيها انه سيفتح المطعم من الآن فصاعدا من الخامسة صباحا، بسبب تقاطر الزبائن عليه بالعشرات. حتى السلوك العفوي للرئيس فتح ابواب الرزق امام مواطن بدلا من ان يغلقه في وجه العباد.
كان هذا هو المثال الأول الذي يبين لنا كيف يكون الرئيس في البلدان الديمقراطية وكيف يتصرف ويعامل كمواطن اسوة بكل المواطنين حين يتعلق الامر بتفاصيل الحياة اليومية العادية. شاهدنا كيف ان الرئيس في هذه البلدان ليس إلها، ولا هو ظل الله على الأرض، وليس معصوما ولا معبودا ولا مقدسا ولا مخلدا ولا مؤبدا لا يظهر الا ليطل من عليائه على ابناء الرعية ليمن عليهم 'بنصف شهر' في عيد العمال، أو يمنح ارادته السامية باطلاق الاحتفالات بعيد ميلاده كقائد مفدى وزعيم مبدى.
اخترق الموكب الرئاسي شوارع العاصمة واشنطن وشوارع الضاحية، وهو ما يحدث ربما عشرات المرات كل شهر، ولم نسمع ان جميع الشوارع والطرقات سدت واخليت من السيارات، ولا اعلنت حالة الطوارئ، ولا انتشر عشرات الآلاف من جنود الامن المركزي والمخبرين والمباحث والعسس والبصاصة، ولم يتعطل المرور ولم تتوقف مصالح الناس واشغالهم، ولم يتم صف الجماهير وتلاميذ المدارس على جانبي الطرقات ليهتفوا بحياة الزعيم، ولم يتسبب موكب الرئيس في وفاة امرأة حامل منتظرة في سيارة اجرة في طريقها الى المستشفى، كما حدث في مصر المحروسة قبل سنوات. (في رمضان العام الماضي فقط كنت كلما ذهبت مكانا في قاهرة المعز اجد الطرق مسدودة او متوقفة او تم تحويلها لأن رئيس الوزراء يتناول طعام الافطار مع بعض ضيوفه، او لأن وزير الدفاع يتناول الافطار في دار من دور القوات المسلحة، او ان وزير الداخلية اولم وليمة رمضانية لوزير داخلية بلد عربي شقيق ليتبادلا الخبرات في افضل طرق تعذيب المواطنين حتى الموت).

حفلة سخرية على حساب الرئيس

الحدث الثاني تقليدي وموسمي وتغطيته العريضة من وسائل الاعلام امر معتاد ومتوقع دائما، ليس فقط بسبب حضور الرئيس له، ولا بسبب طابع هذا الحضور الفريد، وإنما أيضا لأنه حدث اعلامي بجدارة. فهذا هو العشاء الرسمي الذي تقيمه 'نقابة مراسلي البيت الأيبض' وتدعو الرئيس وحرمه وعددا من كبار الشخصيات ونجوم المجتمع ومشاهيره اليه، وهو عادة فرصة ليلقي الرئيس كلمة يستعرض فيها بعض انجازاته، وانما الأهم من ذلك انه يمثل فرصة نادرة للرئيس لأن يخلع بزته الرئاسية الرسمية، بالمعنى المجازي للكلمة، ويبادر بفاصل من النقد الذاتي تقريبا لكل شيء، لشخصيته وطريقة تعامل الاعلام معها، لإنجازاته، لعيوبه وانتقادات خصومه له، وتعامي انصاره عنها، كل هذا في اسلوب فكاهي تهكمي ساخر. الى جانب ذلك تتم دعوة احد نجوم او نجمات الكوميديا ليجلد الرئيس بنكاته وقفشاته.
هذا العام تفوق باراك اوباما على نفسه، بإطلاق النكات والقفشات الساخرة على أركان إدارته وخصومه من الجمهوريين، وأفراد أسرته، بل وعلى نفسه ايضا، في الحفل الذي حضره نحو الفين وسبعمئة ضيف من صحافيين ومشاهير، تبلغ قيمة بطاقة الحضور فيه مئتي دولار، وتذهب عائداته لصالح جمعية خيرية تعنى بتوفير منح دراسية لطلاب الصحافة والاعلام.
استهل اوباما خطابه مرحبا بالحضور الى الاحتفال بذكرى المئة يوم الأولى له رئيسا في سخرية من اهتمام الاعلام الامريكي المفرط بأيامه المئة الاولى في البيت الأبيض، وهو ايضا تقليد امريكي. ووعد اوباما بأن يحقق نجاحا منقطع النظير في المئة يوم التالية 'حتى أنني سأنهيها في اثنين وسبعين يوما فقط، لأستريح في اليوم الثالث والسبعين'، غامزا من قناة الاعلام الامريكي الذي تعجب من دأبه الشديد واصراره على معالجة قضايا عديدة خارجية وداخلية في وقت قصير جدا. وتهكم اوباما على نائبه جوزيف بايدن، حين قال إنه وعد ان يتعلم في المئة يوم القادمة ان يلتزم في خطبه بقراءة ما هو مكتوب امامه، في اشارة الى تعليقات بايدن العفوية التي يخرج فيها عن 'النص'، وعادة ما تثير الجدل واحيانا الاحراج للرئيس وادارته. ونالت وزيرة الخارجية هيلاري كلينتون نصيبها من نكات أوباما حين قال إنه رغم المنافسة الشديدة بينهما اثناء الحملة الانتخابية، الا انهما صارا صديقين حميمين هذه الأيام لدرجة انها غمرته بالقبلات والأحضان بمجرد عودتها من المكسيك وحثته على ان يذهب الى هناك فورا، وكأنها تريد الخلاص منه بإرساله الى المكسيك التي انتشر منها فيروس انفلونزا الخنازير الى انحاء العالم. وعن اهم انجازات الحزب الديمقراطي في المئة يوم الأولى قال اوباما إن الحزب نجح في استقطاب وجوه شابة وجديدة، في اشارة ساخرة لإعلان السناتور الجمهوري الان سبكتر الذي انشق عن حزبه وانضم الى الحزب الديمقراطي، وهو ابعد ما يكون عن الشباب طبعا، لأنه في نهاية العقد السابع من عمره.
ولم يوفر اوباما عائلته، وبدأ بزوجته ميشيل حيث قال إن هناك اتفاقا بين الامريكيين سواء كانوا ديمقراطيين او جمهوريين، على ان ميشيل من حقها ان تكشف عن ذراعيها، في إشارة الى انتقاد الاعلام الامريكي لها لارتدائها فساتين حاسرة عن ذراعيها. وعن ابنتيه ساشا وميليا قال اوباما إنهما أبقيتا في المنزل عقابا لهما على ركوب الطائرة الرئاسية خلسة والذهاب بها في رحلة ترفيهية الى نيويورك، كنوع من شقاوة الأطفال، ولكن اطفال الرئيس بالطبع.
ولم ينس اوباما نائب الرئيس السابق ديك تشيني، حين قال إنه كان من المفترض ان يحضر الحفل لكنه تغيب بسبب انشغاله بكتابة مذكراته التي سيسميها 'كيف تقتل اصدقاءك وتستجوب الناس' في اشارة الى إصابة تشيني صديقا له اثناء رحلة صيد قبل نحو عامين، والى تأييده وسائل استجواب المعتقلين القاسية التي يعتبرها البعض تعذيبا.
لم يوفر أوباما احدا لا شخصا ولا شيئا ولا كيانا، سخر من شركات صناعة السيارات التي تعاني سكرات الموت والافلاس، ومن سياسة دعمها بمليارات الدولارات لإنقاذها التي صاغها ودافع عنها هو نفسه، ومن زعيم الأقلية الجمهورية في مجلس الشيوخ، ومن مذيع راديو جمهوري متعصب يهاجمه وسياساته ليلا نهارا، ومن صحافيين ومراسلين ومقدمي برامج ومن سياسيين سود وبيض، اعضاء كونغرس ووزراء وحكام ولايات وأصدقاء ومشاهير بعضهم كان موجودا.
وبعد انهاء كلمته كان على اوباما ان يتحمل بدوره سيلا من النكات أطلقتها الممثلة الكوميدية السمراء، واندا سايكس، التي سخرت من ظهور صوره عاري الصدر على العديد من المجلات، موجهة كلامها اليه قائلة 'لا نريد ا نرى صدرك عاريا، فنحن لم نر صدر ابراهام لينكولن'، في اشارة الى اعجاب اوباما بلينكولن وهو ما دأب على ذكره طوال الحملة الانتخابية، وفي الكتابين اللذين الفهما عن رحلة حياته حتى الآن.
أين هو الزعيم او الرئيس العربي، او حتى اي مسؤول سواء كان وزيرا او غفيرا، الذي يمكن ان لا نجرؤ ان نقول يسخر من نفسه - بل ويسمح لانسان ايا كان ان يسخر منه ولو في قالب ودي، وهم لا يطيقون النقد الجاد اصلا. في بلادنا يسجن الفنانون ورسامو الكاريكاتير والمثقفون والشعراء اذا تطاولوا على الذات السامية للزعيم بقصيدة او نكتة او حتى تندر في جلسة خاصة قد تصل الى اسماع الزعيم. احمد فؤاد نجم حكم عليه بالسجن سنة بسبب قصيدة هجاء في السادات، وحكم بالسجن على اربعة صحافيين لأنهم تجرأوا وقالوا ان الرئيس مريض، فالآلهة لا تمرض ولا تموت ولا تضحك ولا تمزح ولا تُضحك، وعبد الحليم قنديل ذاق من صنوف البطش الوانا على يد بلطجية النظام، وطورد وحورب في رزقه اينما ذهب من صحيفة لأخرى، بسبب مقالاته. كل هذا وليس فيهم زعيم واحد يملك مثقال ذرة مما يملكه اوباما من مؤهلات رئاسية وانسانية وشخصية.
ونحن لا نتحدث عن سياساته - ولا عن سياسات اي رئيس- وإنما عن المواصفات والمؤهلات المطلوبة في من يقود شعبا وأمة، وعن الطريق الذي يسلكه لكي يصل الى هذا المنصب. أوباما يمثل حالة فريدة ان لم تكن نموذجية لما ينبغي ان يكون عليه الرئيس، ليس فقط في الولايات المتحدة بل وحول العالم. فهو رجل عصامي صعد من اصول متواضعة وكان ثمرة زواج مختلط عرقيا في مجتمع كان غارقا في العنصرية، وتخرج من اعرق جامعات العالم، هارفارد وكولومبيا وكان طالبا متفوقا ورئيس تحرير لدورية قانونية عريقة، ثم صار محاميا مرموقا، وصعد السلم السياسي من اول درجة بدءا بالعمل على المستوى المحلي في مشاريع اجتماعية خدمية في شيكاغو وصولا الى الترشح على مستوى الولاية ثم الرئاسة. خطيب مفوه، يتمتع بذكاء غير عادي، وجماهيرية لا تقارن، وجاذبية شخصية جعلته الأكثر شعبية بين زعماء العالم قاطبة بلا استثناء، وفوق كل هذا وذاك انسان على درجة عالية من الثقافة حتى ان الامريكيين انفسهم يرددون باعتزاز كبير هذه الحقيقة وكيف ان البيت الأبيض لم يدخله رئيس مثقف منذ عدة عقود. يفتخر بأصوله الإفريقية وجذوره الاسلامية وديانته المسيحية وبكونه امريكيا.
فمتى ينزل آلهة البطش في بلادنا عن عروشهم ويتركون شعوبهم تتنفس نسائم الحرية؟

مميزه دائما جانيستا ميرسي

نورتيني اغلا دودو

اغلا نسمه بالكون .. يسلملي القمره