ديمقراطية غير مستقرة أفضل من سلطوية كاسرة

الاهتمام العالمي بالانتخابات اللبنانية ثم الإيرانية غير مسبوق. ففي لبنان كانت المنافسة بين نهجين وسياستين ورؤيتين متناقضتين. نهج يمثل صياغة لبنان المنيع العزيز القوي بشعبه ومقاومته وجيشه، ونهج يريد للبنان أن يكون البلد المنتجع والمصيف والمسبح والمصرف والمسالم والمعولم، ولكلا الرؤيتين أنصار وأحزاب ومؤيدون. والغريب أن أكثر من مليار دولار صرفت على الانتخابات ووصل ثمن الصوت الواحد ألفا وخمسمائة دولار، ومع هذا فالنهج الأول حصل على أكثر من مائة ألف صوت زيادة عن النهج الثاني ولكنه خسر الانتخابات.
وفي إيران كانت المنافســـة كذلك بين رؤيتين ومنهجين وتفكيرين، واحد يكاد أن يولد ولم تكتـــمل شـــروط ولادتــه وآخر يحتضر ولم تكتمل شروط انهياره. فالنهج الذي كسب الجولة في لبنان هو الذي خسر في إيران. وإذا كانت المعارضة في لبنان تقبلت النتيجة بصدر رحب، رفض الخاسرون في إيران الإقرار بهزيمتهم. وخرجوا إلى الشوارع ليتحدوا ليس نتائج الانتخابات فحسب بل السلطة المطلقة للفقيه نفسه وهوية إيران ما بعد الخمينية.
أين تقع الانتخابات اللبنانية والإيرانية من منظور النظرية الديمقراطية الحقيقية؟ هذا ما سنحاول أن نضع معالم الإجابة عليه أمام القارئ ونتركه يستخلص الجواب بنفسه.

مراحل التحول الديمقراطي

يؤكد العالم روبرت داهل (يلفظ اسمه دال)، أستاذ العلوم السياسية في جامعة ييل العريقة بولاية كنيتكيت والذي يطلق عليه لقب عميد أساتذة العلوم السياسية في الولايات المتحدة الأمريكية، يؤكد أن التحول إلى الديمقراطية يمر في أربع مراحل: انهيار النظام السلطوي أو الشمولي، يليه قيام حكم ديمقراطي انتقالي غير مستقر، ثم يدخل النظام مرحلة قيام الحكم الديمقراطي المستقر وأخيرا يرتقي النظام الديمقراطي فيصل إلى مرحلة النضج والتجذر والرسوخ.
ويمكن لأي حكم ديمقراطي أن يتراجع من المرحلة الثالثة إلى الثانية ومن الثانية إلى الأولى لأسباب اقتصادية أو اجتماعية أو تعرض البلاد لمشاكل وتدخلات خارجية وغير ذلك، كما أن انتقال النظام من مرحلة إلى مرحلة أعلى محكوم بقوانين اقتصادية وسياسية واجتماعية تختلف من بلد لآخر.
بهذا المقياس نستطيع أن نحكم على دول مثل روسيا وجنوب أفريقيا ودول أوروبا الشرقية ونيجيريا وباكستان بأنها ما زالت تراوح في المرحلة الثانية، بينما نرى أن البرازيل والمكسيك والأرجنتين وماليزيا والسنغال قد ارتقت إلى المرحلة الثالثة. ونستطيع أن نقول إن تركيا دخلت مؤخرا المرحلة الثالثة بعدما فاز حزب الرفاه والتنمية ذو الأصول الإسلامية وتسلّم السلطة بطريقة سلمية دون تدخل من الجيش.
أما الدول التي وصلت مرحلة النضج والرسوخ فلا يزيد عددها عن خمس وثلاثين دولة تشمل دول أوروبا الغربية والدول الاسكندنافية والولايات المتحدة وكندا واليابان والهند. في هذه الدول تصبح السيادة للقانون ويتم تناوب السلطة بشكل دوري منظم خال من مظاهر العنف ويصبح كل موقع أو منصب مرتبط بالعملية الانتخابية يحمل مسؤولية محددة بصلاحيات واضحة. كما أن هناك نظاما للمراقبة والمساءلة يطبق على الجميع بلا أدنى استثناء حتى لو كان الرئيس نفسه. وتمتاز هذه الدول بالتعددية السياسية وقوة المجتمع المدني والمظاهر الحضارية في التعامل السياسي والمساواة التامة قانونيا بين المواطنين من رجال ونساء ومن سكان أصليين ومهاجرين متجنسين، ويستطيع كل من يتعرض للاضطهاد أو التمييز أو العنصرية أن يقاضي مرتكب الجريمة حتى لو كانت الدولة نفسها.

وهناك مؤشرات ثمانية يجسد كل مؤشر منها ضمانة قانونية مستقرة لتعزيز النظام الديمقراطي ويقاس كل بلد في العالم بمدى اقترابه من أو ابتعاده عن الحكم الديمقراطي بقدر ما يوفر نظام الحكم تلك الضمانات المؤسساتية الراسخة. وهذه الضمانات المؤسساتية الثمانية هي:
* حق كل فرد بالانتماء إلى أو تشكيل أي تنظيم (سلمي طبعا) أو مؤسسة أو حزب دون تدخل من أجهزة الدولــة.
* حق التعبيرمضمون للجميع.
* حق الترشح للانتخابات العامة مكفول لكل فرد ضمن الشروط الدستورية دون تمييز قائم على اللون أو الدين أو العرق أو اللغة أو الوضع الاجتماعي أو الاقتصادي.
* حق كل مرشح أن ينافس المرشحين الآخرين بكل حرية ومهنية وجمع أكبر عدد من المؤيدين والأنصار والمتطوعين والمساعدين دون تدخل من أحد.
* عقد انتخابات دورية في موعد محدد لا يتغير. والانتخابات يجب أن تكون: عادلة ونزيهة وشـــفافة وسلــــمية وتجــــري تحت مراقبة مستقلة دون تدخل مـــن أي جهاز من أجــــهزة الدولة إلا الجهاز المستقل المخول بتنظيمها ومراقبتها وفرز نتائجها.
* من حق كل فرد الوصول والنفاذ إلى مصادر معلومات مستقلة وبديلة عن مصادر الحكومة.
* كل مواطن مؤهل أصلا لاحتلال الموقع الشاغر الذي يسعى لشغله عن طريق الانتخاب الحر والمباشر والشامل.
* والضمانة الأكثر أهمية هي في وجود مؤسسات تضم المنتخبين وتتولى إدارة سياسة البلاد بما يعكس خيارات المواطنين. وهذه المؤسسات عادة تتمثل في مؤسسة الرئاسة والمؤسسات التشريعية.
هذه الضمانات الأساسية لقيام حكم ديمقراطي حقيقي لا تخضع لمزاج الأفراد والقادة والأحزاب حتى ولو كانوا عباقرة موهوبين مثل طاقم الحكام العرب الذين نصبوا أنفسهم أوصياء على شعوبهم إلى الأبد لأنهم وحيدو زمانهم ولا يمكن أن يجود الزمان بمثلهم ولو اختفى أحدهم فقد يضيع الشعب ويتيّتم وينتهي إلى الفناء، ويجسد هذا الفهم ما كان يردده المرحوم الحبيب بورقيبة: 'بهاتين اليدين صنعت الأمة التونسية'. وقد وصل بأحدهم أن أضاف على قائمة ألقابه الكثيرة 'القائد الضرورة' وهو وصف يتجاوز جنون العظمة ليصل إلى حد الجنون نفسه.
فنظرة سريعة إلى المنطقة العربية لا يحتاج الباحث إلى جهد كبير لتصنيف الغالبية الســـاحقة للأنظـــمة العربية بأنها تعيش مرحلة ما قبل الديمقراطية، وغالبيتها يصنف ضمن الأنظمة السلطوية وقد أضاف الباحث آرند لبهارت، من جامعة ييل أيضا، الذي صنف كافة أنواع الأنظمة في كتابه 'نماذج الأنظمة الديمقراطية' صنفا خاصا بمنطقة الخليج وأشباهها سماه النظام السلطاني القائم على حكم العائلة وهذا الصنف لم يرتق حتى إلى مستوى النظام السلطوي الذي يقوم على شيء من المؤسسات كأجهزة الأمن والحزب الواحد والقائد الواحد وبعض مظاهر التعددية الشكلية.

الانتخابات في المنطقة العربية

كثير من الأنظمة العربية تتفاخر بانتخاباتها وكأنها حققت الديمقراطية الكاملة مختصرين الضمانات الثمانية إلى نقطة واحدة هي الانتخابات. ومع إقرارنا بأهمية الانتخابات الحرة والعادلة والنزيهة، فهي لا تشكل إلا جزءا صغيرا من نظام الحكم الديمقراطي. فالغالبية الساحقة من الانتخابات العربية تكون شكلية، نتائجها معروفة سلفا، تعيد تدوير النظام مع تعديلات لا تكاد تذكر، وتصل نتائج الانتخابات الرئاسية في غالب الأحيان إلى 99' مما يجعلها مادة للتندر والفكاهة أكثر من كونها عملية جادة. وقد حدث أكثر من مرة وأن ألغيت نتائج الانتخابات، أو غيرت قوانين الانتخاب أو عدل الدستور لإرضاء النزعات السلطوية لدى القائد أو الحزب الحاكم.
نعم هناك استثناءات تشير إلى أن هناك حنينا حقيقيا لدى الشعوب العربية لممارسة الانتخابات الحرة والترشيح بعيدا عن التزوير وحسم النتائج سلفا كلما سنحت الفرصة. فالانتخابات الفلسطينية التي جرت في الخامس والعشرين من شهر كانون الثاني /يناير عام 2006 والتي أطاحت بالحزب الحاكم 'فتح' وأوصلت المعارضة 'حماس' إلى السلطة كانت أقرب إلى معايير الانتخابات الديمقراطية إلا أن الأجهزة الأمنية والتدخلات الخارجية والضغوط المالية أجهضت التجربة في حزيران /يونيو 2007، وانتخابات الرئاسة الموريتانية التي جرت في شهر آذار /مارس 2007 والتي أوصلت سيدي ولد الشيخ عبد الله إلى الرئاسة أطيح بها أيضا في انقلاب عسكري في شهر آب/أغسطس 2008، وانتخابات السودان عام 1986 والتي أوصلت الصادق المهدي إلى مؤسسة الرئاسة انتهت كذلك بانقلاب عسكري أطاح بالنظام المنتخب في حزيران /يونيو 1989.
وقد تجد في عدد من الدول العربية بعض الانتخابات التنافسية على مقاعد البرلمان والمجالس المحلية، تتمتع بشيء من المصداقية، كما هو الحال في المغرب والكويت والأردن، إلا أنها ليست ثابتة ولا مستقرة ولا منضبطة لقانون انتخابي دائم، وما عدا ذلك فالحديث عن الديمقراطية في العالم العربي أقرب إلى الأوهام. فالملك أو الرئيس أو الزعيم أو الأمير يتربع فوق القانون ويملك صلاحيات مطلقة، يحل البرلمان متى يشاء ويركّب الوزرات على هواه ويمسك بنيان الدولة بيد من حديد، كما أن نظام المساءلة أمر مفقود تماما، وإن طبق فبشكل جزئي وانتقائي وعشوائي وشكلي لا يمس جوهر النظام ورموزه الأساسية. يساعد المسؤول عدة أجهزة أمنية وجيش مهمته حماية النظام وطابور من (الهتيفة) وشعراء البلاط ووسائل إعلام تتحدث عن عبقرية القائد وإنجازاته وشعبيته الوهمية ودوره التاريخي.

الديمقراطية في لبنان وإيران

بتطبيق المعايير الثمانية على كل من لبنان وإيران نجد أن البلدين يشهدان حراكا ديمقراطيا جادا لكن هذا الحراك لم يرتق إلى المستوى الذي نستطيع أن نصف أيا من نظامي الحكم أنه ديمقراطي تمثيلي حقيقي.
فمثلا نرى في لبنان انتخابات حرة ونزيهة وخالية من العنف إلا أن هناك تعزيزا عميقا للطائفية بشكل لم يسبق له مثيل مما يخالف أبسط قواعد الفكر الديمقراطي الذي يقوم أساسا على المواطنة المتساوية. ثم كيف نفسر قيام دولة غير لبنان بصرف ملايين الدولارات وشراء الأصوات واستقدام المغتربين بالطائرات مع رزمة من الحوافز، وهل هذه الممارسات تنتمي إلى الفكر الديمقراطي؟ هل توريث الزعامة من الجد إلى الأب إلى الإبن من الديمقراطية في شيء؟ هل يمكن أن يكون النظام ديمقراطيا إذا كانت المحاصصة الطائفية تميل لصالح أقلية لم تعد تمثل غالبية سكانية. كيف يمكن أن يبقى لبنان يعتمد على دستور وضعته فرنسا عام 1926 وتم تعديله عام 1943 وإحصاء للسكان جرى عام 1931 وقانون انتخابي اعتمد سنة 1960؟
أما إيران، فلا شك أن هناك تداولا للسلطة وهناك انتخابات دورية تعقد في موعدها ويجري تنافس شديد بين التيارات المعتدلة والمتشددة. وقد نجح محمد خاتمي المنتمي للحركة الإصلاحية التنويرية، فأتم فترتين انتخابيتين حسب الدستور، ثم انتخب الشعب الإيراني رئيسهم السادس عام 2005 أحمدي نجاد والذي يمثل التيار المتشدد.
لكن الواضح أن سلطة الفقيه أقوى من سلطة المؤسستين المنتخبتين الرئاسة والبرلمان. فكيف يعقل أن توضع كافة أوراق البلاد في أيدي رجل واحد حتى لو كان عالم دين حقيقي؟ فنظام الفقيه والقوة اللامحدودة التي يمتلكها ليست من الديمقراطية في شيء. والديمقراطية الصحيحة نطام يمثل توجهات وخيارات غالبية المواطنين ويستجيب لتلك الخيارات بشكل كامل أو شبه كامل.
مقارنة مع الأنظمة السلطوية في منطقة الشرق الأوسط لا نجد حرجا أن نعطي علامات أعلى للانتخابات اللبنــــانية والإيرانيـــة من مثيلاتها في بقــــية الدول العربيــة، إلا أن النظامــــين لم يصلا بعد إلى مرحلة الديمقراطية التمثيـــلية التي نراها في تركيا مثلا أو الهند. إلغاء المحاصصة الطائفيـــة في لبنان واعتبار لبنان دائرة انتخابية واحدة وإلغاء سلطة الفقيه في إيران خطوات ضرورية للوصول بالبلدين إلى مرحلة الديمقراطية المستقرة لكن الطريق إلى تلك المرحلة المتقدمة ليس مفروشا بالورود.