كامب ديفيد والانحطاط

من طرف **janesta** الثلاثاء أبريل 07, 2009 4:47 am

صارت المعاهدة المصرية ـ الاسرائيلية، تاريخاً وجزءاً من الماضي. لكن مناقشة تداعيات خطوة السادات الانتحارية عند زيارته للقدس المحتلة، لا تزال خارج اي مساءلة تاريخية جدية، وهذا يعود الى سببين:
السبب الأول هو فشل عملية السلام العربية ـ الاسرائيلية برمتها. النتيجة الوحيدة التي خرجت بها مصر من معاهدة كامب ديفيد، هي استعادة منقوصة السيادة لسيناء، وتحولها من قائدة سياسية واستراتيجية للمنطقة العربية، الى مجرد ملحق بالسياسة السعودية. اما الصراع العربي- الاسرائيلي فقد ازداد التهابا. اذ تخللت هذه الاعوام احداث جسام: ثلاث حروب: لبنان 1982 و2006، وغزة: 2008 -2009. اضافة الى انتفاضتين فلسطينيتين. بخروج مصر من الصراع، استطاعت اسرائيل الاستفراد بالمشرق العربي، واستمرت عربدتها العسكرية التي اتخذت شكل المذابح المتواصلة.
السبب الثاني، هو عدم قراءة المعاهدة في وصفها احد تعبيرات النظام السياسي المصري، الذي حوّل الديكتاتورية الى نمط حكم دائم. الاستبداد، وغياب منطق تداول السلطة، جعل من كل شيء ممكنا، وخاضعا لمزاج الزعيم الأوحد. كما جعل من محاسبة وعود السلام، وخصوصا وعود التنمية الاقتصادية ومحاربة الفقر مجرد سراب. بحيث تحولت مصر الى خزان للفقر، يرفد صعود رأسمالية متوحشة فالتة من اي عقال. الى جانب هذين السببين، يأتي واقع الصراع على فلسطين بحقيقة جديدة تقول بأن اوان كتابة التاريخ لم يأتِ بعد، لأن المنطقة العربية لا تزال تعيش في النكبة المستمرة منذ عام 1948.
عاش الفكر السياسي العربي بعد هزيمة الخامس من حزيران (يونيو) صراعا بين خيارين:
الخيار الاول مثلته الأنظمة العربية، وكانت تستند في ذلك الى قرار مجلس الامن الشهير 242، والذي يعتبر هزيمة حزيران 1967، نقطة الانطلاق للبحث في تسوية للصراع العربي- الاسرائيلي. وكانت الدبلوماسية الاسرائيلية تتبنى ايضا هذا المنطق بتحفظ، ولم تعترض عليه سوى الثورة الفلسطينية لأنها اعتبرت ان القرار الدولي لا يعني الفلسطينيين، لأنه يتعامل مع القضية الفلسطينية في وصفها قضية لاجئين وليس في وصفها قضية تحرر وطني وحق الشعب الفسطيني في تقرير مصيره.
من الواضح ان الخيار الأول، كان يحمل في طياته ما يمكن ان نطلق عليه اسم الاستسلام المشرف. لكن الوصول الى هذا الاستسلام كان مستحيلا في ظل التعنت الاسرائيلي، الذي رفض جميع عروض السلام، مما اجبر مصر وسورية على خوض حرب تشرين (اكتوبر) عام 1973.
بعد الحرب اكتشف السادات ان عليك ان تحقق شبه انتصار كي تسمح لك اسرائيل بالاستسلام. وهذا ما حصل. ومن الواضح ان الاستسلام المصري لم يحقق الحد الأدنى من الأمن القومي المصري، اذ لا يعقل ان تترك غزة لمصيرها الدموي في ظل اي عقل استراتيجي يملك الحد الأدنى من المنطق.
الخيار الثاني مثلته المقاومة الفلسطينية، التي اعتبرت ان هزيمة 1967، تفتح باب العودة الى مساءلة النكبة نفسها. وقدمت اقتراحها الاستراتيجي بحل الدولة الديموقراطية العلمانية. لكن عندما تخلت المقاومة عن هذا الطرح، ودعت الى اقامة دولة فلسطينية مستقلة الى جانب دولة اسرائيل، تبنت اسرائيل المنطق النكبوي، وبرر شارون سحقه الوحشي للانتفاضة الثانية بأنه يستكمل حرب 1948. المنطق الاسرائيلي الرافض لقيام دولة فلسطينية في شكل سافر (اليمين) او موارب (الوسط واليسار)، هو تجسيد عملي وواضح لمنطق استكمال النكبة بنكبة جديدة مستمرة.
تبادل الأدوار، لا يشير الا الى ان المنطقة عالقة في صراع لا يملك اي افق للسلام. اسرائيل لا تريد وضع حد تقف عنده، بسبب شهوتها الى الأرض، والتيارات الفاشية والاصولية الصاعدة فيها. اما الفلسطينيون ومعهم العرب فعاجزون عن فرض هذا الحد على اسرائيل، لأنهم عاجزون او لا يستعدون في شكل جدي لخيار المواجهة العسكرية.
لذا نجحت اسرائيل في اعادة الفلسطينيين الى المربع الأول، فبعد موت عرفات ونهاية الانتفاضة الثانية، لم يعد خيار غصن الزيتون في يد وبندقية الثائر في اليد الاخرى ممكنا. وصار الكلام عن السلام مضحكا ومثيرا للرثاء.
في الذكرى الثلاثين لكامب ديفيد لا يكتشف المراقب فشل عملية السلام ولا جدواها فقط، بل يكتشف ان الاستبداد قام بتحويل اكبر دولة عربية، التي كانت مركز الثقل في العالم العربي، الى دولة هامشية، تتنافس مع امارة خليجية صغيرة، وتخشى الفضائيات العربية!
في الماضي كان يكفي ان يمتلك المواطن العربي جهاز ترانزستور، كي يستمع الى اذاعة صوت العرب من القاهرة، اما اليوم فإن قاهرة المعز تخاف من الاعلام، وتجد نفسها عاجزة عن وقف العدوان على غزة، كما تفقد نفوذها العربي والعالمي، لأنها ليست معنية سوى بتوريث الإبن، وتطويب مصر لرجال الاعمال!
ومن دون مصر، سوف يبقى المشرق العربي في اللاتوازن، الذي يسمح لهذا الانحطاط بمتابعة زحفه من اجل ابتلاع العرب.